**نزع الإنسانية- وقود الحروب وشرعنة القمع في عالمنا العربي**

منذ بداية الألفية الثالثة وتحديدًا بين عامي 2001 و 2024، شهد العالم بأسره تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة الحروب والنزاعات والصراعات على اختلاف أنواعها وتوجهاتها، حيث بات من الصعب للغاية إحصاؤها بدقة نظرًا لتشابكها وتعقيدها المتزايد.
وتشير العديد من الدراسات المتخصصة إلى أن عدد الصراعات المسلحة حول العالم قد شهد ارتفاعًا ملحوظًا خلال الخمسة وعشرين عامًا الأخيرة، وذلك بالمقارنة مع الفترة الزمنية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة.
وتتراوح هذه النزاعات بين حروب أهلية طاحنة وصراعات إقليمية واسعة النطاق ونزاعات داخلية محدودة، وتتفاوت فيما بينها من حيث حدتها وعدد الضحايا الذين تخلفهم وراءها.
ومعظم هذه النزاعات والصراعات يتركز في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، إلا أنها تمتد أيضًا لتشمل مناطق أخرى متفرقة من العالم.
وفي خضم هذه المعمعة المحتدمة، تُستخدم أساليب متنوعة، مثل حروب السرديات والكلمات والمفاهيم والمصطلحات، غير أن أخطرها على الإطلاق يكمن في نزع الصفة الإنسانية عن الأعداء والخصوم.
وتتداخل في هذه النزاعات والصراعات عوامل مختلفة ومتشابكة، كالصراعات العرقية والدينية والسياسية والاقتصادية، مما يسهل استمرار النزاع عن طريق تحويل الأعداء إلى وحوش كاسرة.
ونزع الصفة الإنسانية هو في الأساس موقف نفسي دفين، حيث ينظر الأفراد إلى الآخرين على أنهم كائنات أدنى من البشر أو أسمى منهم، وغالبًا ما يتجلى ذلك في لغة مهينة بغيضة وأفعال قاسية وحشية.
وينطوي نزع الصفة الإنسانية على صراع داخلي مرير بين الاعتراف بالآخرين كبشر وبين اعتبارهم كائنات دون البشر، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تصويرهم كوحوش ضارية وتبرير القسوة المفرطة والعنف الشديد ضدهم.
ويشير مصطلح "نزع الإنسانية" إلى طيف واسع من الممارسات التي تقلل من شأن الإنسان وتنتقص من احترامه وكرامته. ويمكن أن تتجلى هذه الظاهرة في صور وأشكال مختلفة، كالعنف الجسدي والمعنوي والتمييز العنصري والتحقير اللفظي والتهميش الاجتماعي والإقصاء.
وقد لجأ السياسيون والقادة الإسرائيليون، وكذلك نظرائهم من الغربيين، إلى استخدام مجموعة متنوعة من المفردات والكلمات والمفاهيم بغية وصف الفلسطينيين ومقاومتهم المشروعة خلال حرب طوفان الأقصى.
وقد قام الأكاديمي والصحفي المرموق بسام بونني بتتبع هذه المفردات والكلمات والمفاهيم وجمعها في كتابه القيم الذي حمل عنوان: "عبارات الطوفان: حرب الكلمات والسرديات". ويمثل هذا الاستخدام استمرارًا لتقاليد حضارية عريقة لطالما استخدمها الاستعمار الغربي ضد الشعوب المستعمرة.
وقد تنوعت حروب الكلمات لتشمل تصنيفات عدة، من أبرزها ما يلي:
1. الإهانة والتحقير، على سبيل المثال:
- "حيوانات بشرية": وهي عبارة تنطوي على نزع إنسانية الفلسطينيين وتجريدهم من حقوقهم الأساسية المشروعة.
- "إرهابيون": ويستخدم هذا المصطلح بهدف وصم جميع الفلسطينيين بالإرهاب دون تمييز بين المقاومين المدنيين والمسلحين.
- "نازيون جدد": وهو اتهام خطير يهدف إلى ربط الفلسطينيين بأيديولوجية نازية بغيضة وتشويه سمعتهم وتبرير العنف المفرط ضدهم.
- "مخربون": ويستخدم هذا المصطلح لتصوير الفلسطينيين كعناصر مدمرة تسعى إلى تخريب المنطقة وزعزعة استقرارها.
2. لغة الحرب والإبادة:
- "سحق": وهي عبارة تشير إلى نية إسرائيلية مبيتة لسحق الفلسطينيين وقمع مقاومتهم المشروعة بكل الوسائل المتاحة.
- "تدمير": وتعكس هذه العبارة الرغبة الجامحة في تدمير البنية التحتية الفلسطينية وتهجير السكان الأصليين من ديارهم.
- "محو": وتعكس هذه الكلمة الرغبة الخفية في محو الوجود الفلسطيني وتاريخه العريق من الذاكرة.
- "إبادة": وهي عبارة، وإن كانت تستخدم بغرض التخويف، إلا أنها تشير إلى ما قامت به إسرائيل من ارتكاب جرائم حرب موصوفة ضد الفلسطينيين العزل.
3. مفاهيم أمنية:
- "تهديد وجودي": وعادة ما يستخدم هذا المصطلح لتصوير الفلسطينيين كخطر وجودي محدق بإسرائيل، مما يبرر استخدام القوة المفرطة ضدهم.
- "أمن إسرائيل": ويستخدم هذا المفهوم لتبرير جميع الإجراءات الإسرائيلية المتخذة ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الحصار الظالم والعقوبات الجماعية القاسية.
- "حق الدفاع عن النفس": ويستخدم هذا المفهوم لتبرير الهجمات الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين، حتى لو كانت غير متناسبة مع حجم التهديد المفترض.
4. مفاهيم دينية:
- "أرض الميعاد": ويستخدم هذا المصطلح الديني لتبرير الاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- "الشعب المختار": ويستخدم هذا المفهوم لتبرير التمييز الممنهج ضد الفلسطينيين وتفوق اليهود عليهم.
5. مفاهيم تاريخية:
- "الضحايا": واستخدام هذا المصطلح يهدف إلى تصوير اليهود كضحايا دائمين عبر التاريخ، وتجاهل المعاناة المستمرة للفلسطينيين.
- "المحرقة": والغرض من هذا المصطلح هو تضخيم معاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وتشويه صورة الفلسطينيين كجلادين وقساة.
6. مفاهيم سياسية:
- "السلام مقابل السلام": ويستخدم هذا المفهوم لتبرير رفض إسرائيل الدائم للمفاوضات الجادة مع الفلسطينيين.
- "الدولة اليهودية": والغرض من هذا المفهوم هو إقامة دولة إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين وأرضهم.
7. مفاهيم أخرى:
- "التحريض": وعادة ما يستخدم هذا المصطلح بهدف قمع حرية التعبير لدى الفلسطينيين وإسكات أصواتهم.
- "الكراهية": ويهدف هذا المصطلح إلى تشويه صورة الفلسطينيين كشعب يكره اليهود ويحمل لهم الضغينة.
- "اللاسامية": ويستخدم هذا المصطلح لإسكات أي انتقاد لإسرائيل أو لسياساتها الظالمة.
إن استخدام هذه المفردات والكلمات والمفاهيم المتنوعة يصب في نهاية المطاف في خانة واحدة، ألا وهي: نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين ومقاومتهم المشروعة.
وغالبًا ما يُنظر إلى الأشخاص المجردين من إنسانيتهم على أنهم يشكلون تهديدًا هائلاً؛ لأنهم يُصورون كأشرار بطبيعتهم، ويمتلكون قوى خارقة تفوق تلك التي يتمتع بها البشر العاديون.
وفي اضطهاد المجموعة التي تم نزع إنسانيتها، يرى أصحاب السلطة والنفوذ أنفسهم عادةً وكأنهم يتصرفون دفاعًا عن أنفسهم، وليس كمضايقين لأقلية مهمشة أو مجموعة بشرية محددة.
ويتم استخدام نزع الصفة الإنسانية أيديولوجيًا لإنتاج العنف أو إدامة أو زيادة القمع والظلم، ولكن كيف يتم استخدام هذه الآلية بشكل أيديولوجي؟
تفصيل ذلك –كما قدمه لنا كتاب ديفيد ليفينجستون سميث: "صناعة الوحوش: القوة الخارقة لنزع الصفة الإنسانية" – الصادر باللغة الإنجليزية عام 2021:
القمع والسلطة
تعمل الأيديولوجيات المختلفة، بما فيها تلك التي تنطوي على نزع الصفة الإنسانية، على ترسيخ وتثبيت دعائم السلطة والهيمنة والنفوذ. وتتسبب هذه الأيديولوجيات في نشوء علاقات اجتماعية غير عادلة أو إدامة تلك القائمة بالفعل.
خلق المسافة
إن نزع الصفة الإنسانية هو وسيلة فعالة لخلق مسافة نفسية وذهنية تجاه الخصوم والأعداء. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تحفيز العنف بدلًا من مجرد إحباطه وتثبيطه.
تحفيز السياق التاريخي
إن نزع الصفة الإنسانية له طابع أيديولوجي واضح المعالم، ويمكن استكشافه من خلال أمثلة موسعة، مثل إضفاء الصفة العنصرية على اليهود الأوروبيين ونزع الصفة الإنسانية عنهم.
وتوضح هذه القصص العلاقة الوثيقة بين العنصرية وإزالة الطابع الإنساني عن الإنسان، وكيف تستمر الأيديولوجيات في الانتشار والتأثير بعد تأسيسها وترسيخها، وكيف تتكيف مع البيئات الاجتماعية المتغيرة، وكيف يمكن للتحولات الجذرية في البيئة الاجتماعية والسياسية أن تشعل المعتقدات الكامنة لإزالة الطابع الإنساني عن الإنسان، وتمنحها حياة جديدة وقوة كارثية.
الوعي الزائف
غالبًا ما تنطوي الأيديولوجيات على إدراك محرف ومغلوط للعالم الواقعي، لأن المؤمنين بها مخدوعون بشأن أنفسهم أو وضعهم أو مجتمعهم أو مصالحهم الحقيقية.
والمعتقدات الأيديولوجية هي في جوهرها أوهام موجودة؛ لأن المجتمعات والأفراد يحتاجون إليها بشدة. والناس خاضعون لهذه المعتقدات؛ لأن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية تتطلب، من أجل بقائها وسيرها بسلاسة، أن يكون الناس الخاضعون لها غير قادرين على رؤيتها على حقيقتها.
إضفاء الشرعية على الهيمنة
قد تضفي القوة المهيمنة الشرعية على نفسها من خلال إنتاج معتقدات وقيم متوافقة معها، وتطبيع هذه المعتقدات وتعميمها بحيث تجعلها بديهية ولا مفر منها، وتشويه الأفكار التي قد تتحداها، واستبعاد أشكال الفكر المنافسة – ربما من خلال بعض المنطق غير المعلن، ولكنه المنهجي – وطمس الواقع الاجتماعي بطرق ملائمة لها.
وظاهرة نزع الإنسانية – للأسف الشديد- موجودة في المنطقة العربية، ولكنها ليست منتشرة بشكل موحد في جميع الدول والمجتمعات.
ولا توجد إحصاءات أو استطلاعات رأي شاملة وموثوقة تبرز بشكل قاطع مدى انتشار ظاهرة نزع الإنسانية بين الشعوب العربية.
ومع ذلك، هناك العديد من الدراسات والتقارير التي تشير إلى وجود مظاهر مختلفة لهذه الظاهرة، والتي تتغذى على العوامل التالية:
التنوع الثقافي والاجتماعي
تضم المنطقة العربية فسيفساء واسعة من الثقافات والديانات والأعراق المتنوعة، مما يجعلها عرضة للنزاعات والتوترات التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى نزع الإنسانية.
النزاعات والحروب
الحروب والنزاعات التي شهدتها المنطقة العربية في العقود الأخيرة، مثل الحروب في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان، أدت إلى تفاقم ظاهرة نزع الإنسانية؛ بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت خلال هذه النزاعات.
التحديات الاجتماعية والاقتصادية
يمكن للفقر المدقع والبطالة المستشرية والتهميش الاجتماعي أن تساهم في تفاقم ظاهرة نزع الإنسانية، حيث يشعر الأفراد بالإحباط واليأس، مما قد يدفعهم إلى ممارسة العنف أو التمييز ضد الآخرين.
تصاعد خطابات الأمن القومي ومحاربة الإرهاب
غالبًا ما تستخدم هذه الخطابات ضد المعارضين السياسيين دون تمييز بين السلمي والعنيف منهم. وقد امتد هذا الاستخدام لينفي عن المعارضين –الذين تحولوا إلى إرهابيين في عرف هذه الأنظمة – صفة المواطنة.
وتتخذ ظاهرة نزع الإنسانية في منطقتنا أشكالًا عدة، من أبرزها ما يلي:
التمييز ضد الأقليات
تواجه العديد من الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة العربية تمييزًا وتهميشًا، مما يقلل من فرصهم في الحصول على حقوقهم الأساسية المشروعة.
العنف ضد المرأة
لا تزال المرأة تواجه العديد من أشكال العنف والتمييز في المنطقة، مثل العنف المنزلي والتحرش الجنسي والتمييز في فرص العمل.
الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
تشمل هذه الانتهاكات التعذيب والإعدام والاعتقال التعسفي.
إن نزع الصفة الإنسانية – كما يرصده كتاب ليفينجستون سميث- يسهل ارتكاب الفظائع والجرائم الشنيعة، ويستخدم كأداة لتبرير العنف والقمع، ويعمل على تعطيل الموانع بشكل انتقائي ضد القيام بأعمال العنف والقمع وذلك عن طريق:
تعطيل الموانع
إن نزع الصفة الإنسانية يعمل على تعطيل الموانع ضد العنف بشكل انتقائي. فمن خلال تصوير مجموعات معينة على أنها دون البشر، يصبح من السهل تبرير الإجراءات الضارة والوحشية ضدهم.
إن المعتقدات اللاإنسانية هي في كثير من الأحيان معتقدات أيديولوجية راسخة انتشرت على نطاق واسع؛ لأنها كانت تصب في مصلحة فئة معينة من الناس على حساب فئة أخرى.
الانفصال الأخلاقي
يقترح بعض علماء النفس أن نزع الصفة الإنسانية يعزز الانفصال الأخلاقي، مما يجعل العنف مسموحًا به ضد أولئك الذين يُعتبرون دون البشر. وهذا الانفصال يخلق مسافة نفسية وعاطفية، مما يحفز العنف بدلًا من إلغائه. فعلى سبيل المثال، إن وصف مجموعة ما بأنها حثالة يشجع على إبادتها واستئصالها.
إبراز التعامل مع "الوحوش"
إن نزع الصفة الإنسانية قد يؤدي إلى تصور الأشخاص الذين تم نزع صفتهم الإنسانية على أنهم وحوش ضارية، مما يبرر اتخاذ إجراءات متطرفة وعنيفة ضدهم.
تتبقى نقطة ذات حساسية بالغة، ولكنها تستحق الإشارة إليها وتتطلب أن نخصص لها مقالًا مستقلاً، وهي: أننا قد نمارس نزع الإنسانية ليس فقط على المعارضين السياسيين أو الأيديولوجيين، أو ضد مجموعات عرقية أو دينية وثقافية معينة، بل يمتد هذا الخطاب أيضًا ليشمل اليهود في فلسطين وخارجها.
وأخشى ما أخشاه أن يكون التوحش الصهيوني المتفشي في فلسطين وسائر المنطقة، والمدعوم بقوة من الغرب، قد أصابنا بالعمى الأخلاقي وفقدان الاتساق القيمي تجاه أعدائنا، فغاب عنا الميزان القرآني الدقيق: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا"، ونسينا أن المطلوب منا، بغض النظر عن سلوك أعدائنا: "اعدلوا هو أقرب للتقوى".